الحنين للوطن في أدب الجواهري
لعل أسمى اختلاجات للشاعر يعبر عنها في حنينه إلى وطنه ويمتزج حنين الشاعر للوطن مع حنينه لأيام الصبا وملاعب الطفولة ومراتع الشباب فتراه تارة يستذكر وتارة يخاطب وتارة يلوم ويعاتب وهو ممزق أوصال تقطع نياط قلبه الغربة قسرية كانت أو اختيارية وإن كانت القسرية أشد وقعاً.. فأي إنسان مهما بلغ به الجحود والمكابرة فإنه لا يستطيع أن يتجاوز الحنين إلى الوطن ومثابات الحنين التي تشده إليه فكيف إذا كان هذا الإنسان شاعراً ومعنى شاعر أنه يشعر بما يجري حوله بإحساس مرهف وإذا ما امتزج الحس الوطني والإخلاص للوطن والشعب مع شوط الحنين فهذا يعني أننا سنسمع كلاماً صادقاً نابعاً من القلب مشحونة تعابيره بروحية أصيلة.. ولنا ضالتنا من مثل هذه العاطفة المتدفقة في شعر الجواهري وهو الذي عاش شطراً طويلاً من عمره المديد في الغربة مختاراً تارة ومجبراً تارة أخرى فقد كانت أدبياته في حنينه إلى الوطن وإلى ملاعب الصبا والأهل والمعارف وإلى دجلة وغيرها من معالم البلد حنيناً لا يضاهيه حنين.. ورغم كل هذا الحنين فقد كان قدر شاعرنا الكبير أن يموت في الغربة وهو أسير قفصها وهو يكابد لواعج النجوى والشوق والشكوى فأسمعه يقول في حنينه إلى بلده وإلى أيام الشباب:
بلاداً بها استعذبت ماء شبيبتي
هوى ولبست العز برداً على برد
وصلت بها عمر الشباب وشرخه
بذكر على قرب وشوق على بعد
هو رغم كل ما أضفت عليه الغربة من عناية وما قدمت له من خدمة وما وفرت له من احتياجات فإنه لا يرى العز إلا في بلده وهو يرى لنفسه عزاء من ذلك الغربة الذي يعانيه في تذكر العز في بلاده رغم طول المسافة والبعد وتراه في قصيدة أخرى يفضل حر العراق بكل ما فيه من معاناة على برد النعيم الذي يعيشه في بلاد فارس والذي لم ينسه الوطن والأهل فيبث رسائل الشوق والنجوى والحنين إلى وطنه لتطوي غربته ناشداً ومنشداً فيها أمل الوصال:
فمن شاقه برد النعيم بفارس
فإني إلى حر العراقين ميّال
أحن إلى أرض العراق ويعتلي
فؤادي خفوق مثلما يخفق الآل
وتراه يشكو انقطاع مسالك الوصل وأبوابه التي طرقها وما انفك يطرقها للعودة ولكن دون جدوى فيقنع نفسه أخيراً ويكتفي بإرسال سلامه المفعم بالقبل عبر الأثير على مضض..
سلاماً كله قبل
كان صميمها شعل
وشوقاً من غريب الدار
أعيت دونه السبل
ويشتد به الشوق حتى يتجاوز قدرته ويفوق تحمله غير أنه يجالد ويصابر ممنياً النفس بالوصال على أنه يبين أن ما به من الغربة من لوعة قد أجج نيرانها إضافة إلى هجر الأوطان هو الابتعاد عن الأحبة وشوقه العارم لرؤيتهم ورغم كل الحلاوة المتوفرة له في الغربة فإن العيش بنظره يبقى مر المذاق وسبب مرارته هو البعث عن الأحبة والديار..
أحبابنا بين محاني العراق
كلفتم قلبي ما لا يطاق
العي مر طعمه بعدكم
وكيف لا والبعد مر المذاق
ويستبد اليأس بشاعرنا وهو يكابد السهر والتحنان إلى بلده العراق ويعلم علم اليقين أن عدم السلو والحنين الدائب إلى الوطن لا يغنيانه شيئاً طالما هو يعيش الغربة بعيد الأهل والدار وأنه له بلغ به الحنين ما بلغ ولو أنه لم يسل الوطن لحظة واحدة فإن هذا لا يقربه قيد أنملة من أرض الوطن فالاشتياق والحنين قصرا به وعجزا أن يقرباه من مبتغاه لكي يرى الأحبة عياناً أو يطأ ويلثم تربة الوطن الغالية..
سهرت وطال شوقي للعراق
وهل يدنو بعيد باشتياق
وهل يدنيك أنك غير سالٍ
هواك وأن جفنك غير راقٍ
ويكافح الجواهري رغم طول غربته لكنه لا يقوى على إخفاء ضجره من طول غربته ولا تلوح في الأفق بشائر عودة في القريب العاجل ويبلغ به الشوق حد الاكتواء فتهزه وتثير شجونه كل طارقة وبارقة ويستحث حنينه وأنينه كل سامر تدغدغ نغمات مواويله أذن شاعرنا المغترب فيبلغ منه الضجر من نفسه وقعاً لا يقدر على إزاحته حتى لو هرب منه إلى الكأس أو إلى الطرب واللهو..
يا سامر الحي بي شوق يرمضني
إلى اللذات إلى النجوى إلى السمر
يا سامر الحي بي داء من الضجر
عاصاه حتى رنين الكأس والوتر
وبعد ذلك يبقى ما دوناه في هذه السطور عن غربة الجواهري وحنينه هو غيض من فيض ولو ابتغينا الإحاطة لاحتاج الأمر منا إلى الكثير لا نبالغ إذا قلنا إن غربة الجواهري والتي تعددت وتنوعت وطالت حتى أتت على مساحة كبيرة من عمره المديد تصلح وحدها لموضوع متكامل قد يتجاوز الكتاب إلى كتب ولكننا هنا نعتبر أنفسنا في محطة استذكار متواضعة وعابرة لغربة شهيرة لشاعر هو أكثر من مشهور وعسى أن نكون قد سددنا جزءاً يسيراً مما في ذمتنا من مديونية تجاه علم شامخ من أعلام بلدنا وأمتنا ولا يسعنا إلا الاعتذار لشاعرنا الكبير من تقصير أو هفوة عن غير قصد وكذلك لقرائنا الأعزاء..
تحياتي بن محمد